Thursday, February 14, 2008

الوسائل التي اتخذها صلاح الدين للقضاء على المذهب والتراث الفاطمي

الوسائل التي اتخذها صلاح الدين للقضاء على المذهب والتراث الفاطمي
بقلم / د / علي الصلابي
ليس من السهل اليسير أن يقتلع مذهب من المذاهب بمجرد تغيير النظام السياسي في بلد ما من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة، وتدابير ليست من تدابير القوة والبطش فحسب (1) ، لذلك فالملاحظ أن صلاح الدين قد استخدم وسائل وأساليب عديدة في سبيل القضاء على الدعوة الفاطمية بمصر، جاءت بعض هذه الأساليب تتسم بالشدة والعنف والحسم الفوري المباشر، والبعض الآخر اتخذ وسيلة الحيلة والتدرج، واستخدم بعضها القوّى العسكرية، في حين نهج البعض الآخر سبيل الدعوة والتعليم والإقناع، والاستمالة عن طريق المنشآت الاجتماعية الدينية الخيرية وما يوقف عليها من أوقاف للصرف عليها (2) وإليك بعض هذه الوسائل :
1- إذلال الخليفة الفاطمي العاضد : بدأ صلاح الدين بإذلال شخص الخليفة الفاطمي العاضد ، للقضاء على فكرة " الولاية " التي تُبنى عليها جميع النظريات والعقائد الإسماعيلية ، ويستمد منها الحكام الفاطميون قداستهم ، فأرغم الخليفة العاضد على الخروج بنفسه لاستقبال والده نجم الدين أيوب ، عند وصوله إلى مصر، رغم ما جرى عليه العرف ، وحرصت عليه الرسوم الفاطمية ، من استعلاء الخليفة الفاطمي واحتجابه عن الناس لعدم ابتذاله بكثرة ظهوره أمام الناس ، ولإكسابه مسحة من القداسة والتعظيم ، بل يذكر أبو شامة أن العاضد قد خرج لتلقيه إلى ظاهر باب الفتوح ، ولم يجر بذلك عادة لهم ، وكان من أعجب يوم شهده الناس (3) ..
بل اضطر العاضد إلى مخالفة التقاليد والعرف وقواعد ورسوم الدولة فمنح صلاح الدين ألقاب وزراء السيوف ، إذ خلع عليه ولقبه الملك الأفضل ، وحمل إليه من القصر الألطاف والتحف والهدايا (4) ثم مافتئ صلاح الدين يعمل على الاستهانة بالخليفة وابتذال مكانته الروحية بين أتباعه وأنصار دولته ، فأخذ يستولي على موجوداته وممتلكاته الشخصية وخيوله ، بحجة شدة الحاجة إليها في أمور الجهاد ، حتى إن الخليفة في آخر الأمر عرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن فرسه الخاص الذي لا يملك غيره فأجاب صلاح الدين بالاعتذار عن الحاجة (4) ..
ولا يخفى أن هذا الابتذال المتكرر المتعمد الموجه للخليفة للاستهانة به أمام رعيته كان يهدف أيضاً إلى إجبار الخليفة على الاعتزال، وتجنب الظهور في المناسبات العامة، حتى ينساه المصريون (5).
2- وضعه من مكانة قصر الخلافة الفاطمي : عمل صلاح الدين على وضع مكانة قصر الخلافة الفاطمية بأن أسكن فيه أمراء دولته الأكراد ، وكان هذا العمل تأكيداً لسقوط الدولة الفاطمية ، إذا ظلت الدولة الفاطمية تعرف طوال عصور ازدهارها " بالدولة القصرية " (6) نسبة لسكن خلفاء الفواطم لقصور عاصمتهم القاهرة ففي سنة 566ﻫ/1170م قبض صلاح الدين على القصور الفاطمية ، وسلمها لمملوكه قراقوش الخادم ، ثم أسكنها لجنوده وأهله ، وأسكن أباه بقصر اللؤلؤة على الخليج ، وقد سكن القصور الفاطمية الملك العادل إبان نيابته للسلطان بمصر عن أخيه صلاح الدين (7).
3- قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر ، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي به : ما لبث صلاح الدين في سنة 567/1171م أن وجه للدعوة الفاطمية بمصر طعنة قاتلة، كانت كفيلة ولا ريب بالإجهاز عليها ، وذلك بقطعه للخطبة الجامعة من الجامع الأزهر الذي اتخذه الفاطميون جامعة لنشر علوم الدعوة الشيعية الإسماعيلية (8) وذلك بعد أن قلد وظيفة القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه ، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد، كما هو مذهب الإمام الشافعي، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر ، وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل أنه أوسع ، فلم يزل الجامع الأزهر معطلاً من إقامة الجمعة فيه مائة عام من ذلك التاريخ إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس (9) ..
وأيد صلاح الدين هذه الخطوة الجريئة بإزالة الشعائر الشيعية التي أدخلها الفاطميون إلى مصر، واستمرت بها طول عصر دولتهم، من الآذان، وإبان إقامة الصلوات، فأبطل من الأذان قول " حي على خير العمل " واستمر الآذان في مصر على المذهب السني (10) ومنع صلاح الدين ما كان قد تعود عليه المؤذنون في العصر الفاطمي من السلام على الخليفة الفاطمي في الآذان (11) وأقيمت الخطبة الجامعة بجامع الحاكم على نحو يأخذ الخطيب فيها مأخذاً سنياً يجمع فيه الدعاء للصحابة رضي الله عنهم، وللتابعين ومن سواهم، ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولعميه حمزة والعباس رضي الله عنهما، ويأتي للخطبة لابساً السـواد على رسـم العباسية (12).
ومما لاشك فيه أن قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر وما صاحب هذا من تعطيل دراسة مذاهب الشيعة بالأزهر، الذي ظل طوال العصر الفاطمي أضخم مراكز الدعوة الإسماعيلية بمصر (13) ثم تحويل الأزهر إلى جامعة سنية لتدريس علوم السنة وهو ما استمر عليه الحال حتى اليوم - هجرة علماء أهل السنة للتدريس فيه قد أدى إلى نشر علوم السنة بمصر وفي أغلب أرجاء العالم الإسلامي (14) .
4- إتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية : عمد صلاح الدين إلى الآلآت الملوكية الفاطمية، وكنوز القصر الفاطمي، فعمل على إفسادها وأهدى بعضها إلى نور الدين زنكي، والبعض الآخر إلى الخليفة العباسي، ثم طرح باقيها للبيع، بحيث دام البيع فيها مدة عشرة سنين (15) وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين الواردين والصادرين (16) ، وتحول إلى كتب الدعوة الإسماعيلية، التي احتوت عليها مكتبة القصر الفاطمي، فأحرقها وألقاها على جبل المقطم، ثم فرق الكتب غير المذهبية التي صودرت من مكتبة القصر على كبار علماء وأنصار دولته، مثل العماد الأصفهاني والقاضي الفاضل، وأبي شامة الأصفهاني، مما يؤكد أن هدف صلاح الدين كان إحراق كتب الدعوة الشيعية الرافضية فقط (17) ..
وفي الحقيقة كانت كتب الدعوة الشيعية الإسماعيلية من أهم وسائل التأثير التي يتخذها دعاة الفاطميين للترويج لدعوتهم ، وقامت السلطات الأيوبية بإحراق كتب الإسماعيلية بحيث لم يتبق من كتب الدعوة الإسماعيلية إلا الكتب التي احتفظ بها أنصار الفاطميين باليمن والهند بعد سقوط دولتهم بمصر (18) ، هذا في الغالب.
5- ألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطميين : لم يغب عن فكر صلاح الدين خطورة أثر الأعياد والمآتم والحسينيات المذهبية للشيعة في الترويج لمذهبهم وترسيخ معتقداتهم في نفوس المصريين، فألغىِ جميع الأعياد المذهبية للفاطميين مما أدى إلى انقراضها من مصر منُذ ذلك الوقت، وبدهاء سياسي - ومنطلق عقائدي مبني على محاربة البدع الشيعية الرافضية تّم القضاء على الأعياد المذهبية المخالفة للكتاب والسنة، واستكمالاً لهذه الخطوة أقدم الأيوبيون على صبغ الأعياد والمواسم الدينية بمصر بصبغة سنية، بقيت إلى اليوم (19).
6- محو رسوم الفاطمية وعملاتهم : واقترن بمحو الرسوم الفاطمية بمصر إبطال التعامل بالعملات الفاطمية، خاصة وأنها كانت تحمل نقش العقيدة الفاطمية المؤيدة لحقهم في الخلافة " لا إله إلا الله، محمد رسول الله علي ولي الله " وكما أنها كانت تحمل أسماء الخلفاء الفاطميين، وصيغ عقائدية فاطمية ، كما أن بعضها كانت عملات تذكارية تفرق في المواسم والأعياد المذهبية الشيعية على المقربين، استمالة لهم لعقيدة الدولة (20) .
7- الحفاظ على أفراد البيت الفاطمي : احتاط السلطان صلاح الدين على أهل العاضد وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد ، وقَرَّر لهم ما يكفيهم ، وجعل أمرهم إلى قراقوش الخادم، وفَّرق بين الرجال والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم (21) فكان من دواعي السياسة وطبائع الملك أن يحتفظ الأيوبيون على جميع أفراد البيت الفاطمي، خشية أن يظهر من دعاتهم من يجمع حولهم الأتباع والمريدين والراغبين في إعادة دولتهم (22).
8- إضعاف العاصمة الفاطمية : بعد أن نقل الأيوبيين مقر الحكم بمصر إلى قلعة الجبل، التي كانت عملاً عسكرياً بعيد المدى يهدف إلى تحصين مصر ضد هجمات الفرنج انتهزوا هذه الفرصة لابتذال مدينة القاهرة، عاصمة الفواطم، التي ظلت طوال مدة دولتهم مدينة ملكية خاصة بسكن الخلفاء، وطوائف العسكر ورجال البلاد، وأرباب الدواوين، كما كانت في نفس الوقت حصناً عسكرياً بحيث كان أغلب أهل مصر، يسكنون مدينة الفسطاط (23) ، وقد علق المقريزي على ابتذال عاصمة الفاطميين بقوله : فصارت القاهرة مدينة سكنى بعدما كانت حصناً يعتقل به، ودار خلافة يلتجأ إليها، فهانت بعد العز، وابتذلت بعد الاحترام، وهذا شأن الملوك، مازالوا يطمسون آثار من قبلهم ، ويميتون ذكر أعدائهم (24) ولكن ما فعله صلاح الدين في سبيل الله ونصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
9- إحياء الأيوبيين لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي : ارتبط بإبادة الأيوبيين لجميع التراث الفاطمي إحياءهم لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي ، وبيان أن الفاطميين ينحدرون من نسل يهودي أو مجوسي، والاستمرار في هدم السند الشرعي - المزيف للخلافة الفاطمية ولقد قام العلماء المعتمدون بجهود مشكورة في فضحهم، مثل ابن خلكان، وابن أبي شامة ، وابن واصل ، وغيرهم ، وأطلقوا على الفاطميين اسم " بني عبيد" إشارة إلى انتسابهم إلى عبيد الله بن ميمون القَداَّح المجوسي، بل نجد أبو شامة يخبرنا بأنه ألف كتاباً منفرداً، يدلل فيه على زيف نسب الفاطميين (25) ، ولقد خصص أبو شامة في كتابه الروضتين، صفحات طوال في بيان ادّعاءهم للنسب النبوي الشريف (26).
10- الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن : هكذا قضى أهل السنة بزاعمة نور الدين محمود على الدولة الفاطمية، وأبادوا تراثها، وتتبعوا أتباعها في مصر وانكمش التشيع ودخل في طور التخفي والتَستر ، وبدأ زوال المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر مع عساكر نور الدين في مصر عام 564ﻫ/1168م ، واستمر الأيوبيون بقيادة صلاح الدين بمواصلة القضاء على الدعوة الإسماعيلية في مصر واليمن والشام واستكملوا ما بدأه الغزنويون والسلاجقة والزنكيون في محاربة الدعوة الشيعية الإسماعيلية ونشر الدعوة السنية في إيران والشام ، وظل التشيع يضعف في مصر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تدين بمذهب أهل السنة والجماعة (27) .
والحقيقة أن التدابير التي اتخذها زعماء أهل السنة، كنور الدين وصلاح الدين في محاربة المد الشيعي الرافضي أتت أكلها فانقرض من مصر ذلك المذهب الشيعي الرافضي بشكل كامل ، وهو فقه عميق والأمة في أشد الحاجة إليه ، والدرس أن اجتثاث البدع من المجتمعات الإسلامية تحتاج لرؤية شاملة ومشروع متكامل بين الإحياء الإسلامي الصحيح والتصدي للفكر الباطني وتربية الأمة على انتزاع حقوقها ، ومقاومة الغزاة الصليبّين ، وفيما مضى تحدثنا عن بعض وسائل صلاح الدين في القضاء على المذهب والتراث الفاطمي العبيدي.
وقد استفاد صلاح الدين والأيوبيون من تجارب نور الدين في الإحياء السني والتصدي للتشيع الرافضي، وإعداد الأمة للمقاومة وانتزاع حقوقها من أعدائها، ولذلك لم يبدأ صلاح الدين من الفراغ ، وإنما استفاد من الوسائل النورية والتي من أهمها استحداث المدارس السنية ، ودور الحديث، وجعل القضاء على المذهب السني وبسط إشرافه على المدارس، واستخدام الحسبة لإعادة مذهب أهل السنة، وتشجيع التصوف السني ، ورصد الأوقاف لمؤسسات المجتمع المدني، ونشر عقائد أهل السنة.

No comments: